رائحتي. رائحة الديكتاتور..
Nagham Hayder
لا فرق. نعم. رائحةُ طفولتي وشبابي هي ذاتُها رائحة الدكتاتور، أشمّ رائحته في صوري وأنا طفلة. على مريلتي البنية والفولار الذي طُبع عليه شعار حزبهِ رائحة يديه، ساعديه، وربّما شعره. في عناصر الصور كلّها رائحة سلطته…رائحةُ عنقِه فوق الجسورِ وتحتها. فمهِ على أدراجِ البناياتِ الحكومية الصاعدةِ والنازلةِ والمكسّرة. ثيابهِ في الشوارع. ودمه في الحديد والإسمنت الذي بنيت منه كلّ المدارس، وكلّ البلاد.
يتلاعب بي ذهني كعطّارٍ ماكر. يوهمني بأنني أصبحت حرّة من روائح الذاكرة البعيدة وأنّ عطور زمني الحالي مختلفة. لكنّه فجأة في مواقف معيّنة يعاود مزج تلك الروائح في غفلةٍ مني. أشمّ الديكتاتور فوق جلدي حتى بعد أن أغسل عنه كلّ شوائب النهار. رائحته التي تدخّلت في تكويني وصنع ذاكرتي حتى لأصبح الفكاك منها أو محاولة نسيانها أمراً قاسياً، شبيهاً بنكرانٍ فظيعٍ للذات، أو تنكّراً لماضيّ الخاص. هذا ما يجعل سخطي مضاعفاً.
وليس باستطاعة الطفلة بعد الآن، أن تقفز من إطارات الصور هاربة.
إيسن. 2017
أخبرتني جارتي في الطابق الأسفل بأنّها متوعكةٌ قليلاً فنزلت إليها مساء مرتديةً ملابس النوم كي أطمئنّ على صحتها. كانتِ المرةَ الأولى التي نلتقي فيها عند باب بيتها تحديداً، ففي العادة، أصادفها عند باب البناء. وما إن شرّعتِ البابَ حتّى داهمتني رائحةُ دخانِ سجائرَ قديمةٍ جداً عششت أثاثِ البيتِ وجدرانهِ وستائرهِ. بعدما تحدثنا قليلاً وودعتُها بقيت أشمّ رائحةَ بيتها في ملابسي ثقيلةٌ. نفّاذةٌ. تتغلغلُ في الحواس.
ذاك الدخانُ المحبوس في حيّزٍ ما والمختلط برائحةِ الأجساد المكتظّة ذكّرني بالدوائر الحكومية حيث تكون رائحةٌ كهذه في أوجها لم أستطعِ النومَ ليلتها وقد عادت إليّ آخر صورة في ذهني لمكتب الهجرةِ والجوازاتِ والطابقِ الأول فيه. كان بشكلِ دائرةٍ صغيرة تلتف حولها مكاتبُ الموظفين محميَة بزجاجٍ شفّافٍ دون أيّةُ فتحةِ تهوية. كنّا كثراً. أنا والناسُ وأيدينا الممدودةُ بالأوراق. أصواتُ الرجاءِ والطلبِ مهزومةٌ خفيضةٌ أمام الصرخاتِ الآمرةِ والشاتمة. تجمُّع الناس وتكتّلهم بلا انتظامٍ أو اصطفافٍ يذكرني دوماً باحتشادنا البائسِ وراء الكوّاتِ وطاولات الموظفين.
تقلّبتُ في سريري وأنا أتذكّر نظراتِ الناس هناك تعي كلّ شيءٍ وتصمت عن كل شيء، الأيدي التي تتمنى أن تمتد أبعد من أجسادنا حتّى، والأكفِّ المتخمةِ بالأوراق والصورِ المربّعةِ المقصوصةِ كيفما اتفق. كلٌّ منا حمل صورَ جواز السفر التي لا نبتسم فيها، لا نعبسُ لا نندهشُ ولا نتألم أو نتأوه. دون بكاءٍ أو خوف. صورنا ونحنُ في حالتنا المتجمّدة. لو أمكن لأحدٍ أن ينظر إلينا من السقف لوصفنا بأننا بشرٌ دون وجوهٍ يحملون صورهم.
سرتُ بصعوبة ثم صعدتُ الدرج إلى الطابق الثاني والثالث كي أتمّ توقيع بقيّة الأوراق. كان هناك أشخاصٌ ينتظرون على الدرج الضيق وآخرون يهرولون مثلي مسرعين. نحن راحلون أيتها الدرجاتُ أيتها الجدران الوسخةُ والمراحيضُ التي تملأ رائحتها المكان. نريد الفكاكِ منكِ أيتها الرائحة وأيها الهواء الفاسد. كلّ منا أمسك الكثير من الأوراق أحضرنا كلّ الثبوتياتِ والوثائقٍ المطلوبة وركضنا بها كي ننهي كلّ صلةٍ لنا بهذا المكان. هل فكّرنا بأننا كنّا نطلب توقيعاً وأختاماً على وثائقِ اختفائِنا؟ وأن الحصولَ على التواقيعِ كلّها ليس إلّا محواً جديداً لوجوهنا؟ خرجتُ من الهجرة والجوازات سعيدةً ومعي جوازُ اختفائي. لكن رائحة ذاك المكان هي التي لن تختفي ولن تذوب.
لن يخطر على بال جارتي يوماً أن مشهد بيتها الصغير ورائحةَ السجائرِ والاكتظاظَ فيه سيعيدني إلى ذلك المكان. إلى رائحة طفولتي وشبابي وسخطي المضاعف.