ورودٌ لأجل الرئيس
Nagham Hayder
أيسن، أيار 2019
يوم التعرّف إلى المدرسة
أمسك ابني بيدي ونحن نجوب الممرّات ونصعدُ الأدراجَ ونتفحّص القاعة الواسعة. رافقنا عدد من الأهالي ومُربيةٌ أخذت تشرح لنا كلّ ما يتعلق بذلك البناء. قاعاتُ الدرس والأنشطة. الفصولُ والصالة الرياضية وملاعب التسلّق المتنوّعة. كان ابني منفعلاً وأخذ يطرحُ العديد من الأسئلة. أجابت المربيةُ عليها جميعها باستفاضةٍ وصبر. تمنيتُ في سرّي أن لا يوجّه إليّ أيّ سؤال وبقيتُ صامتةً كي أُنسيه وجودي. وتحرّكتُ مع المجموعةِ متلفتةً بارتيابٍ إلى المكانِ من حولي. وصلنا البهوَ الرئيسيَّ وتوقف الجميع معاً كي يتحدثوا قليلاً بأمور المدرسةِ. أما أنا فانتحيتُ جانباً وسرتُ في سردابِ مدرسةٍ أُخرى. مظلمة، حالكة و مسوّرة. تركتُ فيها منذ أعوامٍ عديدةٍ بنتاً صغيرةً بحذاء ملتمع و شعرٍ ذهبيّ، تُقدّم باقةً من وردٍ ملوّن بكلّ لطفٍ و لباقةٍ إلى الرئيس.
دمشق 1995
كيفما مررتُ بين الصفوف كنت أراها. البنتُ المرسومةُ على الجدارِ بألوانٍ زاهيةٍ وتفاصيلَ واضحة.
أقتربُ منها. ألوّح لها وألمس الجدار الذي خُلقت فيه أو أسألها أن تحدّثني عن فخرها بتلك اللحظة المضيئة: الرئيس منحنٍ نحوها مبتسمٌ لها، يدهُ ممتدةٌ نحو باقةِ وردها، فيما هي تناوله إيّاها برقة.
كانت تلك الباقةُ النقية نقطةَ علّام نلتقي بجانبها أو نفترق عندها. والرسمُ يستدعي منّا العديد من النقاشاتِ الطفوليّة والكثير من الاهتمام والفضول. كنتُ أشعرُ أننا هامشيون أمام تلكَ البنت المحظوظة. قلائلُ وليس لنا لون. فإن تلوّثَ وجهها بآثارِ أيدينا الصغيرة هرعتِ موظّفة التنظيف كي تمسحه وتلمعه مارّةً بالفوطة الرطبة على أصابع الرئيسِ الحانية وبذلته السوداء. وإن حتّ الزمن الجدارُ جاء رسّامها بريشه ليعيد اللون إلى الثغرات ويملأ الفراغات البيضاء. فيما نحن متروكون لثغراتنا العميقةِ نحاول إخفاءَها بأكفّنا الصغيرةِ ولا نستطيع…كنتُ أحسدها إذ أنّها ليست مجبرة على الطاعة…
لم أنس تفاصيل ذلك الرسم رغم مرور السنين. وكُلما طلبُ ابني أن أساعده في الرسمِ أحاول شحذ ذاكرتي ولا أستخلص سوى فنونَ الديكتاتور البالية وألوانَ الأعلام واللافتات. اكتشفتُ فيما بعد أنني قاصرةٌ عن رسمِ أيّ مشهدٍ من الذاكرة وكلّ ما يمكنني فعله هو نقلُ صورةٍ أو شكلٍ موضوعٍ أمامي. لقد اختزل الديكتاتور الخطوط كي لا ترسم إلا وجهه أوردة يديه وبذلاتِه المكوية واختصر معنى اللونِ ليصبح جزءاً من كيانه هو. كلّ ما وصل إلينا من لونٍ مرّ عبر الديكتاتور أولاً. في سنواتٍ الطفولة تلك حين تتشكل الذائقة والإحساسُ بالأشياء والمحيط لم يكن أمام ناظري سوى سردابِ المدرسةِ المظلم مسدودُ النهايةِ. وعلى جدرانه الجانبية رسوم الديكتاتور يلوّح لنا…
***
انتهت جولتنا في المدرسة الجديدة. أخبرتُ ابني أنني سأنتظره خارجاً بعد انتهاء الدوام ولن أدخل البناء. كلّ المدارس بالنسبة إليّ الآن سواء…لم أعد أفرّق بين ممرٍّ رحبٍ و سرداب. بين حديقةٍ بعشبٍ مقصوص و سورٍ إسمنتيّ. لا أظن أن الديكتاتور يعرف عنّا شيئاً، نحن طلائعه الصغار. لسنا سوى قرابين. أو وروداً ملونة قدَّمتها له في باقةٍ سخيّةٍ طفلةُ الجدار الأنيقة.
Nagham Hayder, geboren 1987 in Damaskus, ist Schriftstellerin und Zahnärztin und lebt in Deutschland. Sie hat bisher zwei Romane veröffentlicht, beide in arabischer Sprache: „Bitterkeit“ erschien im Verlag Dar Al-Adab, herausgegeben vom Schriftstellerkreis um Najwa Barakat, 2013, „Winterfeste“ kam 2018 im Verlag Hachette Antoine heraus. Beide Verlage haben ihren Sitz in Beirut.